تعيش الأسواق حالة ترقب مع اقتراب موعد طرح العملة السورية الجديدة وحذف صفرين منها، وهو ما ينعكس على سلوك الأفراد تجاه مدخراتهم، إذ قد يتم التوجه إلى البحث عن ملاذات تعتبر أكثر أمانًا، كالدولار الأمريكي.
السلوك الذي يتكرر عند كل تحول نقدي كبير، يعكس حجم القلق المتراكم نتيجة تجارب سابقة اتسمت بعدم الاستقرار النقدي وغياب الوضوح في السياسات الاقتصادية.
وبين مخاوف من انفجار تضخمي محتمل، وآمال بتحسن الثقة بالعملة المحلية، يفتح هذا التوجه بابًا للنقاش حول الآثار الاقتصادية لهذه الخطوة، ودور الحكومة والمصرف المركزي في إدارة المرحلة المقبلة.
وكان مصرف سوريا المركزي أعلن عن إطلاق الليرة السورية الجديدة مطلع كانون الثاني 2026، بعد حذف صفرين من العملة المتداولة، عقب إصدار الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، المرسوم رقم “293” لعام 2025، القاضي باستبدال العملة الوطنية ومنح المصرف المركزي صلاحيات كاملة في تحديد آليات التطبيق وجدول الاستبدال وضخ الفئات الجديدة في الأسواق.
مخاوف مشروعة وسلوك دفاعي
يعتبر الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي مجدي الجاموس، أن توجه الناس نحو الدولار سلوك مفهوم وطبيعي في ظل الظروف الحالية، مؤكدًا أن توقيت عملية تبديل العملة هو العامل الأهم في تحديد نتائجها.
وقال الخبير في حديث إلى عنب بلدي، إن هذه العملية قد تؤدي إلى انفجار في معدلات التضخم، كما قد تفضي في المقابل إلى انخفاض أسعار الدولار في حال عززت الثقة بالعملة المحلية، لكن الناس، بحسب الجاموس، يفضلون “الملجأ الأكثر أمانًا”، وهو الدولار، لتجنب الخسائر المحتملة أو المغامرة بالحفاظ على مدخراتهم بالليرة السورية في مرحلة يحيط بها الكثير من عدم اليقين.
وأضاف أن احتمالات التضخم المرتفع أو تحسن قيمة الليرة تبقى مفتوحة، لكن صغار المدخرين تحديدًا لا يرغبون في “القمار” بمدخراتهم، بحسب تعبيره.
ويتفاقم هذا القلق في ظل حالة اللغط المتوقعة خلال فترة تبديل العملة، خاصة مع وجود عدم استقرار أمني وسياسي، ما يدفع الناس، رغم أهمية العملية، إلى البحث عن وسيلة تحميهم من الصدمات المحتملة.
ويتفق الباحث الاقتصادي محمد علبي مع الخبير مجدي الجاموس حول مخاوف الناس من تزعزع الأسعار عند تبديل العملة وحذف الصفرين، معتبرًا إياها مخاوف محقة ومفهومة، وليست مبالغًا فيها.
ويعزو ذلك إلى أن التجربة النقدية السابقة في سوريا اتسمت بعدم الاستقرار وغياب الشفافية، ما يدفع الناس اليوم إلى التصرف بمنطق حماية مدخراتهم.
ويرى أن طرح عملة جديدة من دون سياسة واضحة لسعر الصرف أو إطار نقدي معلن يجعل اللجوء إلى الدولار سلوكًا دفاعيًا طبيعيًا، وليس حالة هلع.
عامل نفسي يكرس “الدولرة”
شدد الجاموس على أن حذف الصفرين لا يحمل فقط أبعادًا تقنية، بل يترافق مع عامل نفسي قوي، يتمثل في المقارنات بين القيم القديمة والجديدة للعملة، مثل مقارنة العشر ليرات بالألف ليرة سابقًا، هذه المقارنات، بحسب رأيه، قد تخلق ارتباكًا واسعًا في السوق، وتدفع الناس إلى الدولار كخيار أسهل وأكثر وضوحًا في التعامل، خاصة في ظل السماح الحالي بالتعامل بالدولار والعملات الأجنبية داخل سوريا.
وأكد أن من الطبيعي، في مثل هذه الظروف، أن يلجأ الناس إلى الدولار أو العملات الأجنبية، لكن هذا السلوك يترك آثارًا مباشرة على الطلب على الليرة السورية، إذ يؤدي إلى انخفاضه، وقد يكرس عادة التسعير بالدولار كما هو الحال في لبنان، ما يفاقم ظاهرة “الدولرة” حتى بعد الانتهاء من عملية تبديل العملة.
وحذر الجاموس من أن انخفاض الطلب على الليرة، بالتوازي مع الاعتياد على التسعير بالدولار، قد يؤدي إلى توليد معدلات تضخم مرتفعة.
ويرى أن أحد الخيارات المطروحة لتخفيف هذه المخاوف هو ربط الليرة السورية بعملة أجنبية أو عربية مستقرة نسبيًا، مثل الريال السعودي، خاصة في ظل العلاقات الاقتصادية المتنامية مع السعودية، وذلك بهدف الحفاظ على قيمة العملة قبل وأثناء عملية التبديل.
كما أشار إلى أن أبرز المظاهر الاقتصادية المتوقعة تتمثل في تأثير المقارنات السعرية على أسعار السلع، حيث يلعب العامل النفسي دورًا كبيرًا في رفع معدلات التضخم، ويضاف إلى ذلك عزوف الناس عن الاحتفاظ بالليرة وتحويلها إلى الدولار، ما يؤدي إلى “شلال دولار” في السوق، ويغذي موجة تضخمية جديدة.
الباحث الاقتصادي محمد علبي قال إن أبرز الآثار المتوقعة لهذا السلوك تتمثل في زيادة الطلب على الدولار، ما يضغط على سعر الصرف ويضعف الثقة بالعملة الوطنية، سواء القديمة أو الجديدة.
كما قد تتسارع “الدولرة” غير الرسمية، بحيث يزداد التسعير بالدولار في الأسواق بدل أن يتراجع، ما يؤدي إلى مزيد من التضخم نتيجة تسعير السلع على أساس العملة الأقوى.
وأضاف أن زيادة المعروض النقدي المتوقعة، رغم نفي حاكم المصرف المركزي، تبقى عاملًا مقلقًا، خاصة في ظل عدم قدرة المصرف على تقدير كتلة النقد المتداولة بدقة.
وطرح علبي تساؤلات حول تفاصيل تقنية لا تزال غائبة، مثل العملة التي ستصرف بها الرواتب، وما إذا كان سيتم انتظار انتهاء عملية الاستبدال أولًا، معتبرًا أن هذا الغموض يخلق حالة من عدم اليقين تنعكس سريعًا على الثقة وسعر الصرف.
مخاطر انفجار تضخمي
لفت الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي مجدي الجاموس، إلى وجود كتل نقدية ضخمة مخزنة لدى الناس، تقدر بنحو 40 تريليون ليرة سورية، إضافة إلى أموال مزورة، قد تخرج إلى التداول دفعة واحدة خلال مرحلة تبديل العملة، هذا الخروج المتزامن، مع انخفاض الطلب على الليرة وتحول الناس إلى الدولار، قد يؤدي إلى زيادة عرض الليرة بشكل حاد، ما يرفع من احتمالات حدوث انفجار تضخمي، وهو ما يعبر الجاموس عن تخوفه الشديد منه.
ويرى أن من المنطقي، في حال لم يتم ربط الليرة بعملة مستقرة، أن تنتظر الحكومة دعمًا نقديًا من دول شقيقة وصديقة للمساعدة في امتصاص فائض العرض من الليرة، وإعادة تفعيل دور المصرف المركزي كمتدخل أساسي لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف.
فترة التبديل تعكس النتائج
أكد الجاموس أن اليوم الأول من تطبيق عملية تبديل العملة سيكون حاسمًا، فإذا كان رد فعل الناس إيجابيًا، وترافق ذلك مع تقبل ثقافي للعملة الجديدة، فقد تظهر آثار إيجابية مثل تبسيط التعاملات المالية، وزيادة الثقة بالعملة، وخروج الأموال المخزنة إلى التداول.
أما إذا غلبت المخاوف على ثقة الناس، فستكون النتائج، برأيه، سلبية للغاية، مع معدلات تضخم مرتفعة، وارتباك واسع في السوق، ومغالطات سعرية ناتجة عن المقارنات بين العملة القديمة والجديدة والدولار، ما قد يعزز العزوف عن التعامل بالليرة السورية حتى بعد تبديلها، ويكرس نمط “الدولرة” على غرار التجربة اللبنانية.
فيما يتوقع الباحث الاقتصادي محمد علبي، أن تشهد فترة تبديل العملة ارتباكًا سعريًا، واستغلالًا في تحويل الأسعار، وميل بعض التجار إلى رفعها أو تعليق البيع مؤقتًا، إضافة إلى مضاربات وتسعير ضمني بالدولار.
ويرى أن التعامل مع هذه الظواهر يتطلب حزمة إجراءات متكاملة، تبدأ بإعلان سياسة سعر صرف واضحة، وتحديد آليات الاستبدال بدقة، وتوفير فترة استبدال كافية، إلى جانب رقابة فعلية على الأسواق، وخطاب شفاف يعيد بناء الثقة تدريجيًا.
في المحصلة، يعكس توجه السوريين نحو “دولرة” مدخراتهم حالة قلق عميقة من مرحلة انتقالية حساسة، تتوقف نتائجها إلى حد كبير على وضوح السياسات النقدية، وقدرة الحكومة والمصرف المركزي على إدارة العملية بثقة وشفافية، ومنع تحول المخاوف المشروعة إلى أزمة تضخمية جديدة.
حاكم “المركزي” يعلن التعليمات التنفيذية للعملة السورية الجديدة
إطلاق العملة
أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، إطلاق العملة السورية الجديدة والتعليمات التنفيذية لها.
وقال الحصرية في مؤتمر صحفي حضرته عنب بلدي، الأحد 28 من كانون الأول، إن ذلك يأتي في إطار استراتيجية اقتصادية وطنية متكاملة تهدف إلى تعزيز الاستقرار النقدي، وترسيخ الثقة بالاقتصاد الوطني، ودعم مسار التعافي الاقتصادي المستدام.
وأضاف أن هذه الخطوة تندرج ضمن رؤية استراتيجية طويلة الأمد لإعادة بناء النظام المالي السوري، وتعزيز فاعلية السياسة النقدية، بما يسهم في تحسين البيئة الاقتصادية ورفع مستوى الثقة الداخلية والخارجية، بحسب تعبيره.
وتقوم الاستراتيجية الاقتصادية المعتمدة، على خمس ركائز رئيسة، بحسب الحصرية، تشمل تحقيق الاستقرار النقدي، وإرساء سوق صرف ثابت وشفاف، وبناء مؤسسات مالية نزيهة وفعّالة، وتعزيز التحول الرقمي الآمن والفعال، إضافة إلى تطوير علاقات اقتصادية دولية متوازنة تخدم مصالح الاقتصاد الوطني.
الحصرية اعتبر أن تحقيق هذه الركائز يتطلب تحديث القوانين والأنظمة المالية وفق أعلى معايير الشفافية، وتطوير قواعد البيانات، ومواكبة التحولات الرقمية العالمية، إلى جانب اعتماد مصادر تمويل وتدريب مستدامة تضمن التطوير المستمر للقطاع المالي.
وفي سؤال لعنب بلدي حول تحديث منظومة البيانات للحسابات المصرفية العاملة تلافيًا لحدوث أي خلل عند إطلاق العملة، أجاب الحاكم أنه تم العمل لبدء سنة مالية جديدة، تقلب بها الحسابات بالمصارف المالية بالعملة الجديدة، وبالتالي أوتوماتيكيًا ستتحول مثلًا قيمة 100 ألف ليرة سورية إلى ألف ليرة سورية.
وأكد أن التعميمات وزعت على المصارف وشرحت بالتفصيل آلية العمل، سواء على مستوى التكنولوجيا، أو الإدارات التنفيذية، وتم مراعاة هذه الأمور كافة.
وفيما يتعلق بإزالة القيود عن السحوبات، أجاب بأن الموضوع مرتبط بأمور أخرى يتم العمل عليها، ومن آثار العملة الجديدة معالجة مشكلة السيولة.
أزمة السيولة من المهم فيها استعادة قدرة القطاع المالي على استعادة الثقة، وهذا يُعمل به، ويتم العمل مع المصارف لعودة الثقة، أوضح الحصرية لعنب بلدي.
وقال إن جميع أرصدة المصارف منذ بداية العام المقبل ستكون بالليرة السورية الجديدة، مضيفًا أن معيار عملية استبدال العملة تقتضي حذف صفرين بحيث تكون كل 100 ليرة تساوي ليرة سورية واحدة.
كما ستكون هناك فترة تعايش بين العملتين لمدة 90 يومًا قابلة للتمديد، وسيتم الحفاظ على الكتلة النقدية دون زيادة أو نقصان.



0 تعليق