هذا المقال بقلم موسى فكي محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي السابق ورئيس وزراء تشاد الأسبق، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في زمنٍ تتسع فيه الفجوات، وتعلو فيه أصوات الانقسامات والحروب والصراعات على لغة التفاهم والتعايش والحوار، تظلّ إفريقيا قارةً تحمل في ذاكرتها معنى الوحدة، وفي تنوّعها درسًا عريقًا في إمكانية العيش المشترك. إن قوة إفريقيا لا تُقاس بما تملكه من مساحات وموارد طبيعية فحسب، بل بما تستطيع أن تصونه من تآخي ورؤيةٍ جامعة وبما تبنيه من جسورٍ للتواصل والتعايش والسلام بين شعوبها ومجتمعاتها.
خلال 8 سنوات قضيتها على رأس مفوضية الاتحاد الإفريقي، خلصتُ إلى قناعةٍ راسخة: أن تكريس الوحدة والتضامن ليس شعارًا للتظاهر والاستهلاك، بل هو القضية الأولى التي ينبغي لنا نحن الأفارقة معالجتها، بوصفها الضرورة القصوى لمواجهة التحديات الجسيمة التي تعصف بالقارة من أدناها إلى أقصاها.
ولا شكّ أن القارة بموقعها الجغرافي المتميز، فاعل مؤثر بامتياز في الساحة الدولية. فهي قارة شاسعة تبلغ مساحتها 30 مليون كيلومتر مربع، وتمتلك 60% من الأراضي الخصبة على سطح المعمورة. إن إفريقيا قادرة على إطعام الكوكب بأكمله.. فإذا ما أضفنا إلى تلك المعطيات مقدراتها في المعادن المختلفة والطاقة والهدروجين الأزرق فان القارة تتبوأ مكانة لا تضاهى في الأهمية ومسببات النهضة لإسعاد شعوبها والمساهمة في بناء الحضارة الكونية.
وفوق كل ذلك يبقي موردها الأهم هو الإنسان؛ وفي مقدّمته شبابها الذي يشكّل أكثر من 60% من ساكنيها البالغ عددهم 1.5 مليار نسمة، بما يحمله ذلك من طاقة هائلة وإمكانات لا محدودة لصناعة المستقبل.
ورغم زخم الموارد الهائلة ذاك تظل التحديات في القارة جسيمة، ضاغطة مقلقة في ذات الوقت. وبالنسبة لي فإن أبرز تلك التحديات هو الانهيار الأخلاقي وتقهقر القيم وتكاثر وعلو أصوات العنف والأنانية على الروح الجمعية، وظواهر الإقصاء بدل التشارك والإدماج والتعايش السلمي. إننا نحن كأفارقة نحتاج إلى تقدير إرثنا العريق الممتد عبر القرون، بما يحمله من تنوّع ثقافي وديني لنجعله مصدر إلهام ودافعًا أخلاقيًا يعزّز وحدتنا، وتضامننا ويمنحنا القدرة على الإسهام الإيجابي في معالجة أزمات عالمنا المعاصر.
لقد عُرفت إفريقيا بأنها أرض الحوار والفضاء الرحب للتفاعل المتبادل بين شعوبها وثقافاتها. ويُشكّل هذا الإرث المتجذّر أساسًا متينًا لتهيئة الظروف للحوار والمصالحة وبناء السلام. فلا يمكن تحقيق أي هدف جوهري في إفريقيا من دون الوحدة والتضامن بين الشعوب والمجتمعات والدول الإفريقية. ولطالما دعوتُ قادة الدول تلك والأوساط غير الحكومية إلى أن يتحدّثوا بصوت واحد للدفاع عن مصالحنا الجوهرية المشتركة لبناء حاضرنا وصون مستقبل قارتنا.
وخلال فترة رئاستي لمفوضية الاتحاد الإفريقي، شهدنا محطات مفصلية رئيسية ساهمت في نشر روح التعايش السلمي ومؤسساته الريادية إلا أن الطريق ما يزال طويلًا لتعزيز الوحدة الإفريقية على أسس مستدامة مما يتطلّب مضاعفة الجهود، وتعزيز الثقة المتبادلة، فالانتقال من الالتزامات المعلنة إلى ممارسات عملية تُترجم قيم التضامن، وتُجسّد مبادئ الأخوّة الإنسانية بوصفها الإطار الأخلاقي الجامع الذي يُعيد الاعتبار للإنسان هو عمل طويل النفس. إنه عمل حضاري والظواهر الحضارية لا تكتمل في أحسن صورها إلا على مدى الزمن الطويل.
إنني أستلهم كثيرًا من المعاني السامية من صانعي السلام على مستوى القواعد الشعبية في إفريقيا، ومن الأثر الذي يتركونه، وخاصة من اثنين من المكرّمين الأفارقة بجائزة زايد للأخوّة الإنسانية؛ وهي جائزة عالمية مستقلة تُكرّم الأفراد والمؤسسات الذين يعزّزون التعايش السلمي والتقدّم الإنساني. وقد تأسست الجائزة عقِب توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، عام 2019، من قِبل فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة البابا الراحل فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية السابق، برعاية كريمة من صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة بارك الله سعيه الحميد.
علي رأس المكرمين امرأة شجاعة من كينيا: شمسة أبو بكر فاضل، المعروفة باسم "ماما شمسة". لقد أنقذت ماما شمسة حياة أكثر من 10 آلاف من الشباب المعرّضين للخطر في مومباسا، ممن كانوا منخرطين في أنشطة إجرامية متطرفة لسنين طويلة. قامت بهذا العمل في صمت دون أن تسعى إلى أي اعتراف، إلى أن ذاع صيتها وانتشرت أخبار أعمالها النبيلة فاختارتها جائزة زايد للأخوّة الإنسانية ضمن المكرّمين عام 2022.
أما الثاني فهو شاب من إثيوبيا، اسمه هيمان بيكيلي، الذي دفعه شغفه بمساعدة الآخرين إلى توجيه أبحاثه العلمية نحو تطوير صابون منخفض التكلفة لعلاج سرطان الجلد. لقد ركّز اهتمامه وسخّر موهبته خدمة لصحة الإنسان ورفاه الإنسانية وهو في سنّ مبكرة للغاية أي في الخامسة عشرة من عمره. إنه مثال حيّ على طاقة شباب إفريقيا الخلاقة وقدرتهم على تغيير العالم.
وبصفتي عضوًا في لجنة تحكيم جائزة زايد للأخوّة الإنسانية في دورتها السابعة لعام 2026، ونحن الآن في مرحلة اختيار المكرّمين، والانتهاء من مراجعة ترشيحات واردة من أكثر من 75 دولة حول العالم، بما في ذلك العديد من الدول الإفريقية، فقد خلق لدي تقييم هذه الترشيحات شعورًا متجدّدًا بالأمل في الإنسانية جمعاء. فالكثير من المترشحين يجسّدون قدرة شخص واحد على إحداث تغيير إيجابي في مجتمع، أو مدينة، أو دولة، أو قارة بأكملها، فما بالك لو تضافرت جهود الملايين في الإبداع والابتكار والإنتاج؟
إني أتطلع إلى أن يفتح الإعلان عن المكرّمين لعام 2026 الشهر المقبل نافذةً واسعة للاحتفاء بما يصنعه الخير في عالمنا، وأن تُضيء مسيرتهم دروبًا جديدة أمام البشر من كل الأعمار والأعراق والأديان في كل القارات نحو عالمٍ أجمل وأكثر أنوارًا.
إننا مستعدون - بكل حب وإخلاص - لهذه المسيرة الخيرة ونأمل أن نواصل العمل سويًا مع هؤلاء السفراء الجدد للأخوّة الإنسانية جنبًا إلى جنب مع لجنة التحكيم والأخ المستشار محمد عبد السلام، الأمين العام للجائزة، والمكرّمين بها في دوراتها المختلفة، لصياغة أفقٍ أخلاقي جديد يعيد للإنسان إنسانيته وللقيم قيمها، وللسلام جوهره السرمدي.
أخبار متعلقة :